فصل: قصة يوسف في القرآن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل إلى علوم القرآن الكريم



.قصة يوسف في القرآن:

ومن أبرز القصص القرآني قصة يوسف، وهي قصة رائعة التصوير رفيعة المعنى، جميلة النظم، عظيمة الدلالات، عميقة الإشارات، تصف الطبائع البشرية، وتفضح أساليب الغدر والكيد.
وأروع ما في قصة يوسف تلك الخاتمة العظيمة التي ختم الله بها القصة وتحمل في ثناياها أعظم الدلالات على أهداف القصة في القرآن، وأروع الدروس التي تبين عاقبة الأمم من قبلنا، ومن آمن منهم ومن كفر، من صدق بالأنبياء ومن جحد، قال تعالى:
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف].
وقصة يوسف كما حددتها الآيات الأولى من السورة تهدف إلى بيان أمرين اثنين:
أولا: بيان نعمة الله على أنبيائه، وكيف يجتبيهم ويعلمهم من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليهم، وقصة يوسف لا تختلف من حيث الدلالة عن قصة موسى وآل فرعون، وكما التقط آل فرعون الطفل من اليم ليكون لهم قرة عين فقد اشترى عزيز مصر يوسف بثمن بخس دراهم معدودات وقال لامرأته: أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا، وتبرز العناية الإلهية في توجيه أحداث القصة ووقائعها والإمساك بزمام الشخصيات التي تنفذ ما أحكمته القدرة الإلهية من التمكين ليوسف في الأرض وتعليمه من تأويل الأحاديث..
ثانيا: بيان ما طبعت عليه النفس الإنسانية من استعداد للشر، وتمثل هذا الاستعداد فيما توقعه الأب عند ما سمع رؤيا يوسف في المنام، وأنه رأى أحد عشر كوكبا والشمس والقمر يسجدون له فقال له أبوه، وقد توقع من أبنائه الآخرين إذا سمعوا بذلك أن يكيدوا له، {قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف: 5].
وبدأت القصة القرآنية لحياة يوسف وإخوته بقوله تعالى: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ، وهذه هي العبرة من القصة أن تكون آية لغيرهم من الناس، ثم بدأت بعد ذلك بمقدمة يسيرة عن أصل المشكلة، إخوة متنافسون، شعور الإخوة بحب الأب لأحد أبنائه، الطبيعة البشرية.. وبسرعة يتخذ القرار.
- {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً}.
- {لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ}...
- {وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ}..
ووقف الأبناء أمام أبيهم معاتبين:
- {يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ}..
- {أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ}..
وبدأ الخوف ينتاب الأب الصالح.. لماذا هذه العناية المفاجئة بيوسف، لماذا هذا الحب الذي ما عهده في أولاده.. وداخله الشك والريبة وخاف عليه..
ولا سبيل إلى إيقاف هذا الحكم الإلهي الذي يساق البشر إليه، وهم عنه غافلون..
وفي العشاء.. والظلام يخيم والرهبة مسيطرة على النفوس.. وقف الأبناء أمام أبيهم يبكون..
- {يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ}.
- {وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} لتأكيد الرواية..
وأحس الأب الصالح بما جرى.. ولكن لا سبيل لديه لمعرفة الحقيقة.. ولا يملك إلا الصبر..
وهمس لسانه بكلمات قليلة:
- {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً}.
- {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}.
- {وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ}.
ثلاث كلمات معبرة.. الشك في الرواية.. التمسك بالصبر.. الاستعانة بالله لمواجهة هذه النكبة..
ويبتدئ مسلسل الإعداد والتكوين.. وفقا لأحداث متتالية يقود بعضها البعض الآخر، في حلقات متكاملة..
- جاءت سيارة.. قال واردهم:
- {يا بُشْرى هذا غُلامٌ}..
- وباعوه بثمن بخس.. قال الذي اشتراه لامرأته:
- {أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً}..
وبدأت المحنة الجديدة..
- {وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ}..
- {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ}..
- {وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ}..
بلهجة المؤمن الذي مكن الله له في الأرض وعلمه تأويل الأحاديث وبإيمان من آتاه الله حكما وعلما قال:
- {مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}..
وهمت به.. وهم بها.. والهم هنا متعدد المعاني.. والأقرب والأوضح من الآية هو البطش.. في حالتي المدافعة والمغالبة، كل منهما يريد أن يهم بالآخر، هي تريد تنفيذ ما فكرت فيه.. وهو يريد أن يتخلص بالقوة، ولا سبيل لتفسير الهم بإرادة الفاحشة منه لأن سياق الآية أكد أن الهم المتبادل جاء بعد الرفض..
وفي تلك اللحظة رأى برهان ربه، الذي تولى أمره، وجعله من المخلصين..
وأسرع كل منهما للباب.. وفجأة ظهر السيد.. ورأى المشهد المثير، وقبل أن يسأل أو يستفسر أو يحكم أو يتهم أو يدين انفجرت المرأة لتحقق أمرين معا:
تبرئة نفسها... والكيد لذلك الذي أذل أنوثتها قالت بحدة: {ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم} واستعملت كلمة (أهلك) لتحريض الزوج وإثارته، وحددت له العقوبة، السجن أو العذاب الأليم..
ودافع يوسف عن نفسه.. ولا خيار له..
- {هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي}..
- {وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها}..
فلما تأكد الزوج من براءة يوسف.. قال كلمة معبرة عن الإدانة:
- {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}..
والتفت إلى كل من يوسف وامرأته قائلا:
- {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا}..
- وأنت: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ}..
ولما انتشر الأمر وشاع.. وأخذ نسوة في المدينة يتحدثن عن امرأة العزيز التي تراود فتاها عن نفسه، قالوا:
- {قَدْ شَغَفَها حُبًّا}..
- {إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}..
وغضبت لما سمعت ما قيل عنها.. وأرادت أن تؤكد لهن لماذا شغفها حبا..
ويصف القرآن بعبارات موجزة ما فعلت تلك المرأة:
- {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ}..
- {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً}..
- {وَءاتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً}..
- {وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ}..
فلما رأينه أكبرنه.. وقطعن أيديهن.. وبصوت واحد قلن:
- {حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً}.
- {إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ}.
هنا.. ارتاحت امرأة العزيز.. انتصرت.. ليست الوحيدة التي يمكن أن تضعف، ولماذا تخفي الحقيقة.. لماذا تكذب على نفسها.. لماذا تضعف..
هي امرأة العزيز ومن حقها أن تعيش سعيدة.. وليس من حق يوسف الذي أحبته أن يرفض طلبها، لن تسمح له بذلك.. لن تخجل بعد اليوم من حبها.. هي امرأة ومن حقها أن تحب..
وقالت بغضب وحدة لمن حولها من النسوة:
- {فذلكن الذي لمتنني فيه}.
- {ولقد راودته عن نفسه فاستعصم}.. نعم راودته.. ولا أخجل من هذا..
{ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين}.. ولا خيار له بعد ذلك..
وأطرق يوسف رأسه هنيهة.. ثم رفع رأسه إلى السماء معتصما بالله مستسلما لأمره ملتجئا إليه، كما يفعل العبد عند ما يشعر بعجزه.. وأخذ يدعو..
- {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}..
- {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ}..
ودخل السجن.. ربما كان ذلك رحمة به.. لكي تتوقف المحنة التي صبت عليه من امرأة العزيز.. ما زال كيدها يلاحقه.. لن تتركه أبدا ينعم بالراحة..
وفي السجن برز يوسف.. أنضجته المحنة.. وعلمته ما لم يكن يعلم..
واشتهرت معجزته التي أكرمه الله بها، آتاه الله حكما وعلما وعلمه من تأويل الأحاديث، وأخذ يحدث أصحابه في السجن بما علمه الله من تأويل الأحاديث ويدعو بالحكمة والحجة إلى الإيمان بالله وإلى نبذ الشرك والكفر، داعيا إلى عبادة الله واتباع ملة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب..
ووقف بين صاحبيه في السجن يقول لهما:
{يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 39- 40].
ومكث يوسف في السجن بضع سنين، وكاد أن ينسى، تلك شريعة الظلم والطغيان، وكيف يمكن لعزيز مصر أن يذكر ذلك الشاب الذي تعلقت به زوجته، وتحدث الناس بشغفها فيه.. كان عليه أن يمكث في الظلام لكي يطمئن ذلك العزيز إلى وفاء زوجته.. لكي تنساه.. وينسى الناس ما تحدثت النسوة به..
ودخل معه السجن فتيان من فتيان العزيز اتهما بالتآمر عليه:
- {قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا}..
- {وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه}..
قال يوسف وقد علمه الله تأويل الأحاديث.. وذلك بفضل ما ترك من ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون، واتباعه ملة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
يا صاحبي السجن:
- {أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً}.
- {وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ}.
وقضي الأمر الذي فيه تستفتيان.. ومرت هذه الحادثة.. ونسي من هو ناج منهما يوسف، أنساه الشيطان ذكره.
بعد بضع سنين.. في مجلس الملك.. وقد التف صحبه حوله وكان قلقا من منام:
- {يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ}..
- {إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ}..
وأطرقت الوجوه حائرة لا تنبس ببنت شفة.. ماذا نجيب.. والملك يلح عليهم وهو قلق: ويكرر: أفتوني في رؤياي.. ويلتفت يمنة ويسرة.. فلا يسمع إلا صوتا هامسا يتردد في الأرجاء..
- أضغاث أحلام.. يا أيها الملك.. وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين..
وفجأة تقدم رجل.. يمشي بخطا ثابتة.. واثقا من نفسه قال باطمئنان:
- {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ}..
ونظر الجميع إليه بدهشة.. والكل يتساءل.. من أين لك علم التأويل، وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين.. قال:
- هناك في السجن يوسف.. أرسلوني إليه.. ما أتانا طعام رزقناه إلا نبأنا بتأويله قبل أن يأتينا.. ذلك مما علمه الله..
ووقف الرجل أمام يوسف خجلا معتذرا، وقد أنساه الشيطان ذكره أمام الملك.. قال بتحبب:
- {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 46].
قال يوسف:
- {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف: 47- 49].
سمع الملك تأويل الرؤيا، وأعجب بدقة التأويل وبصدقه ولا شك أنه تأكد من صدق ذلك التأويل، وعلم أن ذلك التأويل مما لم يعهده الناس، وأنه مما اختص الله به يوسف.
وأسرع الملك مخاطبا أعوانه:
- {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي}..
فلما جاءه الرسول مبشرا بأمر الملك.. رفض يوسف أن يعود قبل أن تبرأ ساحته، وينصف بعد ظلم، ويعاد له اعتباره، وقال للرسول:
- {ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ}، ووقف الملك أمام النسوة يستفسرهن عن الحقيقة قائلا:
- {ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ}..
أجابت النسوة بصوت واحد:
- {حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ}..
وتقدمت امرأة العزيز مطأطئة رأسها بخجل وحياء، معترفة بالحقيقة، مؤكدة أنها لا يمكن أن تخونه بالغيب قائلة:
- {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}..
- {وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}..
ولما عرف الملك الحقيقة كاملة، وتأكد مما ألحقه بيوسف من ظلم، وما قاساه من كيد النساء، وما سمعه من ثناء عليه، قال من جديد مستعجلا عودته إليه:
- {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي}..
ووقف يوسف أمام الملك عزيزا كريما رافع الرأس موفور الكرامة، قال له الملك:
- {إنك اليوم لدينا مكين أمين}..
وأجابه يوسف بثقة:
- {اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}..
وتسدل الستارة على هذا المشهد الرائع المعبر، ويبتدئ مشهد جديد، هو الأشد في التأثير وهو الأقوى في التعبير عن عظمة الحكمة الإلهية في القصة القرآنية، التي تشير في كل مشهد وفي كل موقف إلى تلك الحكمة، وتضع يدنا على عبر عظيمة الدلالة، لكي يتعلم جيل الخلف من جيل السلف، فالغد أمس يتجدد، والأمس غد يعاد، ويقف الإنسان أمام الأحداث مذهولا، لا يدري أن الدروس والعبر بين يديه، شاخصة حية..
ووقف يوسف بشموخ ورفعة بعد أن مكن الله له في الأرض يستقبل وفود المحتاجين من بلاد كنعان بعد أن أصابهم القحط وحل بهم الجوع يعطيهم الطعام والمال، ووقف إخوته أمامه، فعرفهم وهم له منكرون وقال لهم: {ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون}.
ومن جديد.. وقع حوار لطيف بين الأب وأبنائه:
- {يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ}.
وأجابهم الأب بصوت هامس حزين، يدل على عمق الجرح العظيم ومدى تأثيره في نفسه.
- {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}..
ولما رأوا بضاعتهم ردت إليهم صاحوا بفرح:
- {يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ}..
وأجابهم الأب وقد أحيط به:
- {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ}..
فلما فعلوا أوصاهم أبوهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة، ووقفوا من جديد بين يدي يوسف، وآوى إليه أخوه، وقال له:
- {إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ}.
- {وجعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون}.
وساد صمت رهيب.. أعقبه احتجاج وإنكار، قالوا:
- {تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ}..
ولما استخرج صواع الملك من وعاء أخيه، عاودهم شعور الكراهية والحسد نحو يوسف.. قالوا:
- {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ}..
وفجأة تذكروا موثقهم مع أبيهم، سيشك في صدقهم، وخجلوا من أنفسهم، والتفتوا إلى يوسف، وهو يقهقه في أعماقه، يرى حيرتهم ويتتبع ملامح وجوههم، وهم يرددون:
- {يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.
ورد عليهم بحزم:
- {مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ}.
ووقفوا من جديد أمام أبيهم:
- {يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ}..
واستسلم الأب الصالح لأمر ربه.. والشك يراوده، وأخذت الدموع تسيل من عينيه، وابيضت عيناه من الحزن.. وأخذ يردد:
- {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ}..
ولما ضاق صدرهم بما كان يردده الأب عن يوسف قال:
- {إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ}. وأمرهم أن يتحسسوا من يوسف وأخيه.. وألا ييأسوا من روح الله.
ومن جديد عادوا إلى يوسف قائلين:
- {يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا}.
وأراد يوسف أن يكشف عن نفسه، فلقد أوشكت القصة على النهاية وأدت الغاية منها.
- {قال هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ}..
- {قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ}.
- {قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا}.
- {قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ}.
- {قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
ونادى الأب الصالح لما اقتربت العير:
- {إني لأجد ريح يوسف}..
- {فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}. [يوسف].
ووقف الأب والإخوة أمام يوسف وقد رفع أبويه على العرش وخروا له سجدا، وأخذ يوسف يخاطب أباه:
{يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: 100].
- {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101].